الاثنين، 15 ديسمبر 2008

قصة (الوداع الاخير)

( الوداع الأخير )
بعد تناول العشاء في غرفة بالمدينة الجامعية وفي لحظة ود خرج إسماعيل مع أيمن إلى ضفة من ضفاف الإبراهيمية ودار الحديث الجميل تارة في الدين وتارة في شتى أمور الحياة كان يطمح أن يسود الخير هذه الدنيا نظرته إلى الأفق البعيد ربما أحاطت بكل أحلام الفتى كأنه يقرأ فنجان الحياة يمشي قليلا ثم يعبث بشجرة (الصفصاف) ورقة بيده وأخرى تناثرت حوله نظرة هنا وأخرى هناك لم يفت أيمن أن يقاطع صمته أو يسارع مدى بصره لأنه يعلم عن إسماعيل ما تقر به عينه وفي لحظة استدار الفتى إسماعيل كلمات تلعثمت بلسانه وطموحات علقت بذهنه وهواجس أحاطت بخاطره كان يراعي حداثة عهد التزام أيمن بطريق الله فهو حائر بين أفكار تتدافع داخله وحرصه الجميل على صديقه أيمن
صفارة قطار الصعيد وجلبة أصوات السيارات تعبر الطريق وإشارة خضراء تؤذن بالعبور للمارة وكنت أنا وهو في عجلة لكي نلحق بالإشارة الخضراء هو لم يكد يراها إلا وبعد أن عبر قال لأيمن ان الطريق إلى الله أشبه بهذا الطريق تارة تمضي إذا كانت إشارة الطرق خضراء وتقف طواعية لله إذا تراءت لك الإشارة الحمراء
لقد كان امتحان مادة البلاغة هذا العام غامض لكنه جميل أن يجد الإنسان صعوبة ويقطعها في تحد جميل (مشرف الدور بالمدينة الجامعية يعلن عن انتهاء مدة السكن هذا العام فعلى جميع الطلاب تسليم الأمانات عند الموظف المختص ) يمسك إسماعيل بأجندة أيمن يسطر له فيها ذكرى وأيمن مشغول في اخذ عناوين الزملاء ورفقاء الطريق
ودموع هاني طالب الهندسة رقراقة في عينه وهو يودع أصحابه . وأخر يعلن عن قرب وصول قطار الثالثة المتجه إلي القاهرة وأيمن يترقب الأجواء خلسة وعلى جدار الغرفة يكتب (وعسى قريبا ان يكون لقاؤنا 1994)
مرت الأيام وانقلب الحال وتباعدت المسافات مسافات الغياب وتناثر العقد الفريد على شفا قارعة الأيام ومرت الأيام ولم يجمع بين الخليلين بريد وترقب من أيمن لتلك الأحداث المتصارعة يعلم ان إسماعيل على القائمة المطلوبة لذا كان يقرأ الصحف لعله يجد خبرا عنه
وبينما أيمن عائد إلى بيته مساء ليلة تبادره أمه أن شخصا اسمه إسماعيل سال عنك وهو ينتظرك في مسجد القرية هرع أيمن يسابق الخطى إلى المسجد وخلف سارية إذا بإسماعيل والمصحف بين يديه تعانقا تتدفق الدمع مدرارا وسؤال نوبات الشجى هل سوف يرجع حلمنا وتعود أبراج الحمام تطال ذاكرة الصحاب . اسماعييييييييييييييييييييل وصرخة فرت تمور بأجواء المسجد
ليلة جميلة تلك التي مرت عليهما وليست صدفة أن تنقطع الكهرباء بالقرية فيسود الظلام إلا شمعة في زاوية غرفة ببيت أيمن تسامرا عليها وما أحلى السهر ذكريات الأشهر الخاليات ونظرة للمجهول المرتقب وأسئلة تزاحمت في خلد أيمن نظرات الفتي لم تفارق جبين إسماعيل يبدو انه لم ينم منذ أيام لكنه تجاهل سلطان النوم مقابل تلك الساعات الجميلة التي جمعته برفيق الدرب لم يكن حظهما من الثلث الأخير إلا ركعتين ودمعتين في ثنايا عيونهما يخفيهما الظلام ويكشف سترها ما تبقى من نور الشمعة الثكلى هي الأخرى تشهد وتسمع وتودع نفسها قبل أن تودع رفيقين
وفي الصباح انتهى الوقت المحدد للزيارة وسيبدأ بينهما فراق طويل لم يصدق أيمن أن الليلة مرت وان الشمعة طفئت وان الصبح اقبل والليل قد أدبر وحلت لسعات الغياب
ها هو إسماعيل يخرج من تحت جوربه لفافة صغيرة يطلب من أيمن أن لا يقرأها إلا بعد أن يغادر القرية وتعانقا سويا عناقا بائنا على ما يبدو هذه المرة
رجع أيمن مسرعا إلى اللفافة فإذا هي ورقة بها رسالة مودع ورجاءات راحل
( أخي أيمن لعلك تذكر لقائنا الأول في تظاهرة بالجامعة ما كنا ساعتها نتمتم بالفراق وولادة الإخاء لم تزل في أيامها الأولى لكننا ألان نمضي طوعا أو كرها إلي المجهول والمدى البعيد الرحب والخلد الطيبة وأهلها الصالحين بإذن الله ليست القضية من يرحل أولا لكن الأهم أن نلتقي هناك ثانية والله قادر على أن يجمع بيننا يوم القيامة لكني أقولها لك أخيرا فأحفظ عني اعلم انه كما انك لن تشم رائحة الطعام حتى تلسع بالنار فإنها الجنة لن تشم رائحتها حتى تتعب .... والي لقاء الخلد يا ..........)
لم تمض أيام وبعدها رحل إسماعيل عن دنيا الناس وهو يمثل فانتازيا من نوع خاص وتاركا خلفه لفافة عمر قصير ومطوية ذكريات في كتاب الحياة القديم مودعا كل اوارق شجر الصفصاف ومسارات الطرق كلها خلفه بلا إشارات للمارة وقيد أنملة من رحيق الإخاء مختوم بمسك الصدق يمخر إلي الركن البعيد .... ولوحة خالية حتى من صفارات إنذار القطار صامتة صمت العيون أمام صخب الأسى وماثل فيها من كل ألوان الشجى تصل إليه الحقيقة بشق الأنفس مشطورة على شط اليم تنتظر تابوت الوليد يعبر إلى حنان آسيا وحنين الماشطة وانتظار مرضعة الأمان في أقصى الأرض وفي خير الأرض ويوم العرض
ولتمض الدنيا غير مأسوف عليها
-بابا......بابا عايز لعبة طيارة
- لما نخرج يا خلاد
- أنت حبيبي يا بابا
وفي نفس الحجرة التي التقى فيها إسماعيل احتضن ولده وبقايا الشمعة الثكلى رماد بطول الجدران و ركعتين السحر الموعد
و(عسى قريبا أن يكون لقاؤنا 2008)
تمت
ابو خلاد هشام فتحي
heshamfatey@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: